لماذا المنظمات التي تدفع رواتب أقل من السوق هي مجرد مركز تدريب لمنافسيها؟
تواجه المنظمات اليوم
منافسة شرسة في سوق العمل، حيث أصبح الموظف الموهوب عملة نادرة تسعى إليها الشركات
بمختلف أحجامها وقطاعاتها. في ظل هذا الواقع، يبرز سؤال جوهري: هل يمكن للمنظمة أن
تحافظ على أفضل الكفاءات إذا كانت تدفع رواتب أقل من متوسط السوق؟
الإجابة في معظم الأحيان: لا. بل إن هذه المنظمات تتحول، دون أن تشعر،
إلى ما يشبه "مركز تدريب" مجاني يزود منافسيها بالكوادر المدربة والخبرة
الجاهزة.
1. الراتب هو رسالة تقدير
الراتب ليس مجرد مبلغ
مالي يحصل عليه الموظف في نهاية الشهر، بل هو انعكاس مباشر لتقدير المنظمة لقيمة
الموظف. حين تدفع الشركة رواتب أقل من السوق، فهي ترسل رسالة غير مباشرة للموظف
مفادها أن جهوده ليست ذات قيمة كبيرة. ومع مرور الوقت، يبدأ الموظف في البحث عن
مكان آخر يقدّر جهوده مادياً ومعنوياً، وهو ما يفتح الباب أمام المنافسين
لاستقطابه بسهولة.
2. الموظفون يتعلمون ثم يرحلون
الموظف الجديد يدخل
المنظمة وهو بحاجة إلى تدريب وتأهيل ليتعرف على العمليات، الأنظمة الداخلية،
وطبيعة السوق. الشركة تستثمر وقتاً وجهداً في تعليمه، لكنه بمجرد أن يكتسب الخبرة
ويصبح مؤهلاً، يبدأ في التفكير بالانتقال إلى شركة أخرى تقدم له راتباً أعلى وحزمة
مزايا أفضل. هنا يتحول الاستثمار في التدريب إلى خسارة مباشرة للمنظمة، بينما يجني
المنافسون الثمار دون أن يتحملوا أي تكلفة.
3. فقدان الاستقرار الوظيفي
المنظمات التي تدفع
أقل من السوق تعاني من معدل دوران مرتفع للموظفين (High Turnover). وهذا يعني أن الفريق
دائماً غير مستقر، والعمليات تتأثر باستمرار بسبب خروج ودخول موظفين جدد. بيئة
العمل نفسها تصبح طاردة للكفاءات، لأن الموظفين الباقين يشعرون بالضغط نتيجة نقص
الخبرات أو الحاجة لتدريب زملاء جدد بشكل متكرر.
4. سمعة السوق لها تأثير طويل الأمد
سمعة المنظمة في سوق
العمل أمر لا يمكن إخفاؤه. الموظفون يتحدثون، وتجاربهم تنتشر عبر المنصات المهنية
مثل لينكدإن أو حتى في جلسات شخصية. إذا عُرفت الشركة بأنها "تدفع أقل من
السوق"، فإنها ستفقد قدرتها على جذب المواهب من الأساس. ومع مرور الوقت،
يتحول اسمها إلى مجرد "محطة مؤقتة" يمر بها الموظفون لاكتساب الخبرة ثم
المغادرة، بدلاً من أن تكون مكاناً لبناء مستقبل مهني طويل.
5. المنافسون يستفيدون بلا تكلفة
المنافس الذكي لا
يحتاج إلى بناء برامج تدريبية مكلفة طالما هناك شركات أخرى تقوم بالمهمة نيابة
عنه. كل ما عليه فعله هو مراقبة السوق والتقاط الموظفين الذين تدربوا واكتسبوا
خبرة عملية حقيقية في هذه الشركات ذات الرواتب المنخفضة. وهكذا تصبح هذه المنظمات
"مورد موارد بشرية" مجاني للمنافسين، دون أن تجني أي عائد مقابل هذا
الجهد.
6. الأثر السلبي على الإنتاجية والابتكار
الموظف الذي يشعر أن
راتبه أقل مما يستحق لن يقدم أفضل ما عنده. بل على العكس، سيؤدي مهامه بالحد
الأدنى فقط، في انتظار الفرصة المناسبة للانتقال. غياب الحافز المالي يؤثر بشكل
مباشر على روح الابتكار، الالتزام، وحتى الرغبة في التعاون مع الفريق. هذا يؤدي
إلى انخفاض جودة المنتجات أو الخدمات، وبالتالي خسارة في السوق أمام منافسين أكثر
جدية في مكافأة موظفيهم.
7. الحل: الاستثمار في الموظفين كأصل استراتيجي
المنظمات الناجحة
تدرك أن الموارد البشرية ليست مجرد تكلفة، بل هي استثمار طويل الأمد. دفع رواتب
عادلة ومنافسة يحقق ثلاث فوائد أساسية:
1. الاحتفاظ بالكفاءات وتقليل معدل دوران الموظفين.
2. رفع مستوى الولاء والانتماء للمنظمة.
3. تعزيز القدرة التنافسية في السوق من خلال موظفين ملتزمين ومبدعين.
خاتمة
في النهاية، المنظمات
التي تدفع رواتب أقل من السوق لا توفر أموالاً كما تظن، بل تخسر على المدى الطويل.
فهي تستثمر في تدريب أشخاص يغادرون بمجرد أن تتاح لهم فرصة أفضل، لتستفيد الشركات
المنافسة دون أن تتحمل أي تكلفة. إذا أرادت المنظمة أن تتجنب هذا المصير، فعليها
أن تعيد النظر في استراتيجيتها للأجور، وأن تتعامل مع الموظف باعتباره شريكاً
استراتيجياً، لا مجرد مورد يمكن استبداله بسهولة.
